من المفروض أن الجزائريين شعب ضحوك وشعب نكتة وخفة دم، رغم كل ما يقال عنه في تونس والمشرق من انه شعب انفعالي وعصبي ومعكر المزاج.
دليلي في ما أقول أنني استطعت أن أجمع كمّاً هائلا من النكت في ذروة الاقتتال الداخلي الذي خلّف بالتسعينات 200 ألف قتيل والله أعلم كم من مليون جريح ومعطوب ومهجّر ومشرد ومصدوم.
لدي اليوم العشرات من هذه النكت، وقد فكرت أن أجمعها في كتاب أسميه 'نكت الحرب' أو 'الضحك على الموت' أو شيئا من هذا القبيل، يكون عبارة عن كتاب جيب يتضمن 90 أو 100 نكتة، يقرأه الانسان، يضحك ثم يتركه ويمضي لشأنه.
وقد اتفقت منذ سنوات مع صديق بارع في اختلاق وتسويق النكت (حتى الأكثر برودا يجعلها تقتل من الضحك) على انجاز هذا المشروع، لكننا لم نمض فيه بالجدية الكافية.
هي خليط من النكت، من أكثرها طرافة الى أسخفها، ومن أكثرها حكمة وعبرة الى أكثرها بذاءة وتسفيها.
صحيح أن بعض النكت ثروة إنسانية. وينسحب هذا على 'نكت الحرب' الجزائرية التي تبدو كما لو كانت من التراث العالمي بحيث تتقاسمها البشرية فيكفي تغيير المكان والزمان لتصبح النكتة مفيدة في سياق آخر غير سياقها الأصلي. وقد روى لي أصدقاء لبنانيون نكتا عن الحرب الأهلية في لبنان هي ذاتها يرويها الجزائريون في (أو عن) حربهم. كما أنني أتوقع أن في الحرب الأهلية المقبلة، ولتكن حيثما أراد لورداتها أن تكون، سيتوارث المحظوظون الذين تنزل على رؤوسهم، نكت الجزائريين لتوظيفها في سياق بلائهم.
هذا تراث عالمي، فلا يحق لأحد ادعاء أحقيته به.
يبدو لي هذا التقديم ضروريا من أجل الكلام اللاحق. وأنا أستذكر كل تلك النكت، أتساءل كلما شاهدت التلفزيون الجزائري هذه الأيام، أين ذهبت تلك القدرة الهائلة على السخرية من الأذى وتجاوزه بالتنكيت عليه؟ من قتل في الجزائريين روح النكتة؟ كيف يُختزل 35 مليون كوميدي وضحوك في ثلاثة رجال يحتلون التلفزيون فيفرضون أنفسهم عليك بارتجال يصل أحيانا حد الابتذال: لا سيناريو ولا حوار ولا موضوع ولا كوميديا حقيقية ولا شيء.
في الجزائر ما يكفي لصناعة كوميديا لا تنتهي. الشارع، بمآسيه وعيوبه وجنونه، الباصات والتاكسيات، مسرح كوميدي مفتوح ومجاني. حتى أنني في المرات القليلة التي أذهب، ووسط زحمة السير وفوضى الاشياء في الشارع، أقول في قرارة نفسي ان وضع كاميرا خفية في الشارع تسجل حركات وسكنات مستعمليه وما يجري فيه، ثم بثه على الناس سيكون أجمل وأنجح برامج تلفزيون الواقع. ضع كاميرا في سوق باش جراح أو أحد أسواق القصبة أو في الحافلة المتهالكة المتجهة من تافورة الى براقي، وستصطاد لك العجب العجاب، لا حاجة لقصة ولا سيناريو ولا هم يحزنون.
بيد أن كل هذا لا يكفي أمام الإفلاس التلفزيوني والسينمائي البائن في بلادي. الخواص لا ينتجون بكثرة والقطاع الحكومي لا يعرف كيف وماذا ينتج. التلفزيون لا ينتج، ولا يبدو أنه يهتم بالإنتاج. وحجته قلة السيناريوهات والمشاريع الجادة والقوية. والمنتجون يشتكون من قلة رأس المال. والممثلون يشتكون من قلة الاهتمام بهم وما زالوا يناضلون من أجل قانون أساسي للفنان. والمخرجون يشتكون من قلة النصوص وانعدام التسويق.. وهكذا. حلقة مفرغة مخيفة يدور فيها الجميع.
لقد ضحكت عندما سمعت الممثل عبد النور شلوش الأسبوع الماضي يتحدث في برنامج تلفزيوني (جزائري) عن الدراما الجزائرية (على وزن الدراما السورية والمصرية).
هي حفنة مسلسلات تعدّ على أصابع اليد الواحدة ولا تتوفر في أفضلها أبسط شروط العمل الدرامي، يقول عنها شلوش الدراما الجزائرية.
لكن الدراما والسينما مشكلة أخرى. الموضوع هنا عن( السيتكوم) و(السكيتشات) التي يُفترض أنها كوميدية. هنا المأساة، وهنا يتجلى الفشل في أبهى صوره.
هؤلاء الثلاثة اسماؤهم كالآتي: صالح أوغروت، مراد خان والأخضر بوخرص. هم أبطال الكوميديا في الجزائر منذ سنوات، حضورهم ضروري في البرامج الرمضانية، لكنه هزيل وسطحي ومجتر.
من الممكن أن نبحث لهم بسهولة عن الأعذار في الواقع المذكور آنفا والمكون من خليط من البيروقراطية والعجز المالي والشللية والإفلاس الذهني والمهني وغيره.
في هذه الحالة سنقول دعونا ننظر للنصف المملوء من الكوب، يكفيهم شرفا انهم يجتهدون فلنمنحهم أجر اجتهادهم، وبدل 'النق' عليهم لنشجعهم على المزيد وعلى التطور كماً ونوعاً.
كلام جميل ومنصف. لكن قناعتي هي أن السكوت على هؤلاء الثلاثة ومن معهم، يعني بقاءهم (وبقاء المشاهد الجزائري) 'مكانك تراوح'. وأخشى أن السكوت عنهم يؤدي الى هذه النتيجة: بعد 20 سنة، سنسأل عنهم فنجدهم ما زالوا ينتجون الأعمال نفسها بالطرق والأفكار نفسها والبساطة، بل السذاجة، نفسها. ما يعني أننا سنبقى في نفس المكان، وعلماء الفيزياء قالوا ان من لا يتقدم بالضرورة يتأخر.
هناك واقع مكرس في العمل الفني الجزائري يتمثل في التكرار والتقليد، بدليل أن هناك مطربون ما زالوا يؤدون أغنية 'دور بيها يال الشيباني'، وبعد 20 سنة من وفاة 'المفتش الطاهر'، ظل هناك من يحاول تقليده في لكنته وشكله وملبسه، علما أنه لو أطال الله عمره، كان الحاج عبد الرحمن ذاته سيغيّر أسلوبه.
أعترف بأنني لا أشاهد الثلاثي المرح كثيرا وباستمرار (لا لسبب إلا لأنني لا أستطيع)، والله وحده يعلم أنني حاولت واجتهدت لكن فشلت بسببهم. لكن المرات القليلة التي شاهدتهم تكفي لحكم موضوعي، فكلما شاهدت خاب ظني أكثر.
مشكلتهم الأولى أنهم غير قادرين على التجديد، فهم سطحيون وسجناء نفس الأفكار ونفس الأعمال، تتكرر بدون جهد.
ومشكلتهم الأخرى أنهم يستولون على البطولة في (الشو)، فيغطون على الآخرين.
والمشكلة الأخرى أن أعمالهم لا أجد أنها تهدف الى شيء، يكفي أن تضحك في تلك اللحظة (هذا إذا استطعت) ثم تنسى الأمر بعد ثوان.
المشكلة الأخطر هي أنهم لا يدركون أن بينهم وبين المشاهد كبسة على زر الريموت كونترول، وأن المشاهد غير مضطر لمشاهدتهم.
ورغم حقيقة أن المشاهد يتصالح مع تلفزيون بلاده في شهر رمضان بالذات، وهذا صالح مع كل المشاهدين العرب فيما أعتقد، أتساءل عن نسبة المشاهدين الذين يتمسكون ببرامج الكوميديا الجزائرية وسط الكم الهائل من المسلسلات والبرامج الترفيهية الأخرى في مئات القنوات التي تدخل بيوت الناس من دون استئذان.
أخطر ما في الأمر الآن غياب المنافسة ثم غياب النقد. فالصحافة المكتوبة تعيش ردة مخيفة وانحطاطا كبيرا، خصوصا في أقسامها الفنية والثقافية. والبلاد بدون مجلات ومطبوعات متخصصة. أما عن المنافسة، فيكفي القول ان في الجزائر تلفزيونا واحدا هو المنتج وهو المستهلك، يحيي ويميت كما يحلو لأصحابه.
المنافسة الموجودة تأتي من الخارج، لكن لا يبدو أن القائمين على هذا الحقل في الجزائر أدركوا بعد خطورتها.
هواية عربية
عند القائمين على قناة 'اي ان بي' اللبنانية هواية أخذ الأخبار المغاربية دون الإشارة الى مصادرها. آخر ما في ذاكرتي تقرير الزميل حسين مجدوبي الأسبوع الماضي بهذه الصحيفة عن خسارة البوليزاريو حليفا قويا في أمريكا بوفاة السيناتور ادوارد كينيدي.
في نفس المساء أخذت 'اي ان بي' الخبر بحذافيره في نشرتها المغاربية المسماة 'أصداء المغرب العربي' (لو سميّت 'أصداء تونس' كان أفضل)، لكن عوّمته في صيغة 'قالت تقارير صحافية'.
يا جماعة الخير، نعرف أن الاستحواذ على أخبار الآخرين أصبح هواية عربية بامتياز في الصحف والفضائيات ومواقع النت، لكن ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ذكر المصدر لا يضركم في شيء، بل أفيد لكم قبل غيركم.